فصل: تفسير الآيات (6- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعبُر عنهم بالاسم الظاهر في {فقال الكافرون} دون: فقالوا، لتوسيمهم فإن هذه المقالة من آثار الكفر، وليكون فيه تفسير للضميرين السابقين.
والإشارة بقولهم {هذا شيء عجيب} إلى ما هو جار في مقام مقالتهم تلك من دعاء النبيء صلى الله عليه وسلم إياهم للإيمان بالرَّجْع، أي البعث وهو الذي بينتْه جملة {أئذا متنا وكنا ترابًا} إلخ.
والاستفهام مستعمل في التعجيب والإبطال، يريدون تعجيب السامعين من ذلك تعجيب إحالة لئلا يؤمنوا به.
وجعلوا مناطَ التعجيب الزمانَ الذي أفادته (إذا) وما أضيف إليه، أي زمنَ موتنا وكونِنا ترابًا.
والمستفهم عنه محذوف دل عليه ظرف {أئذا متنا وكنا ترابًا} والتقدير: أنرجع إلى الحياة في حين انعدام الحياة منا بالموت وحين تفتت الجسد وصيرورته ترابًا، وذلك عندهم أقصى الاستبعاد.
ومتعلقّ (إذا) هو المستفهم عنه المحذوف المقدَّر، أي نُرجَع أو نعود إلى الحياة وهذه الجملة مستقلة بنفسها.
وجملة {ذلك رجع بعيد} مؤكدة لجملة {أئذا متنا وكنا ترابًا} بطريق الحقيقة والذِكر، بعد أن أُفيد بطريق المجاز والحذف، لأن شأن التأكيد أن يكون أجلى دلالة.
والرَّجع: مصدر رجَع، أي الرجوع إلى الحياة.
ومعنى {بعيد} أنه بعيد عن تصور العقل، أي هو أمر مستحيل.
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4)}.
ردٌّ لقولهم: {ذلك رجع بعيد} [ق: 3] فإن إحالتهم البعث ناشئة عن عدة شبه منها: أن تفرق أجزاء الأجساد في مناحِي الأرض ومهابّ الرياح لا تُبقي أملا في إمكان جمعها إذ لا يحيط بها محيط وأنها لو علمت مواقعها لتعذر التقاطها وجمعها، ولو جمعت كيف تعود إلى صورها التي كانت مشكَّلة بها، وأنها لو عادت كيف تعود إليها، فاقتصر في إقلاع شبههم على إقلاع أصلها وهو عدم العلم بمواقع تلك الأجزاء وذرّاتها.
وفُصِلت الجملة بدون عطف لأنها ابتداء كلام لرد كلامهم، وهذا هو الأليق بنظم الكلام.
وقيل هي جواب القسم كما علمته آنفا وأيًّا مَّا كان فهو رد لقولهم {ذلك رجع بعيد}.
والمعنى: أن جمع أجزاء الأجسام ممكن لا يعزب عن علم الله، وإذا كان عالمًا بتلك الأجزاء كما هو مقتضى عموم العلم الإلهي وكان قد أراد إحياء أصحابها كما أخبر به، فلا يعظم على قدرته جمعها وتركيبها أجسامًا كأجسام أصحابها حين فارقوا الحياة فقوله: {قد علمنا ما تنقص الأرض منهم} إيماء إلى دليل الإمكان لأن مرجعه إلى عموم العلم كما قلنا.
فأساس مبنى الرد هو عموم علم الله تعالى لأن يجمع إبطال الاحتمالات التي تنشأ عن شبهتهم فلو قال، نحن قادرون على إرجاع ما تنقص الأرض منهم لخطر في وساوس نفوسهم شبهة أن الله وإن سلمنا أنه قادر فإن أجزاء الأجساد إذا تفرقت لا يعلمها الله حتى تتسلط على جمعها قدرتُه فكان البناء على عموم العلم أقطع لاحتمالاتهم.
واعلم أن هذا الكلام بيان للإمكان رعيا لما تضمنه كلامهم من الإحالة لأن ثبوت الإمكان يَقلع اعتقاد الاستحالة من نفوسهم وهو كاف لإبطال تكذيبهم ولاستدعائهم للنظر في الدعوة، ثم يبقى النظر في كيفية الإعادة، وهي أمر لم نكلف بالبحث عنه وقد اختلف فيها أئمة أهل السنة فقال جمهور أهل السنة والمعتزلة تعاد الأجسام بعد عدمها.
ومعنى إعادتها.
إعادة أمثالها بأن يخلق الله أجسادًا مثل الأولى تودع فيها الأرواح التي كانت في الدنيا حالّة في الأجساد المعدومة الآن فيصير ذلك الجسم لصاحب الروح في الدنيا وبذلك يحق أن يقال: إن هذا هو فلان الذي عرفناه في الدنيا إذ الإنسان كان إنسانًا بالعقل والنطق، وهما مَظهر الروح.
وأما الجسد فإنه يتغير بتغيرات كثيرة ابتداء من وقت كونه جنينا، ثم من وقت الطفولة ثم ما بعدها من الأطوَار فتخلف أجزاؤُه المتجددة أجزاءَه المتقضيّة، وبرهان ذلك مبيّن في علم الطّبيعيات، لكن ذلك التغير لم يمنع من اعتبار الذات ذاتا واحدة لأن هُوية الذات حاصلة من الحقيقة النوعية والمشخصات المشاهدة التي تتجدد بدون شعور مَن يشاهدها.
فلذا كانت حقيقة الشخص هي الروح وهي التي تُكتسَى عند البعث جسد صاحبها في الدنيا، فإن الناس الذين يموتون قبل قيام الساعة بزمن قليل لا تَبلى في مثله أجسامهم تُرجَّع أرواحهم إلى أجسادهم الباقية دون تجديدِ خلقها، ولذلك فتسمية هذا الإيجاد معادًا أو رجْعًا أو بعثًا إنما هي تسمية باعتبار حال الأرواح، وبهذا الاعتبار أيضًا تشهد على الكفار ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون لأن الشاهد في الحقيقية هو ما به إدراك الأعمال من الروح المبثوثة في الأعضاء.
وأدلة الكتاب أكثرها ظاهر في تأييد هذا الرأي كقوله تعالى: {كما بدأنا أول خلق نعيده} [الأنبياء: 104]، وفي معناه قوله تعالى: {كُلّما نضِجت جلودهم بدّلْنَاهم جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب} [النساء: 56].
وقال شذوذ: تُعاد الأجسام بجمع الأجزاء المتفرقة يجمعها الله العليم بها ويركبها كما كانت يوم الوفاة.
وهذا بعيد لأن أجزاء الجسم الإنساني إذا تفرقت دخلت في أجزاء من أجسام أخرى من مختلف الموجودات ومنها أجسام أناس آخرين.
وورد في الآثار «أن كل ابن آدم يفنى إلاّ عجْب الذنب منه خُلق ومنهُ يركب» رواه مسلم.
وعلى هذا تكون نسبة الأجساد المعادة كنسبة النخلة من النواة.
وهذا واسطة بين القول بأن الإعادة عن عدم والقول بأنها عن تفرق.
ولا قائل من العقلاء بأن المعدوم يعاد بعينه وإنما المراد ما ذكرنا وما عداه مجازفة في التعبير.
وذكر الجلال الدواني في (شرح العقيدة العضدية) أن أبَيَّ بن خلف لما سمع ما في القرآن من الإعادة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبيده عظم قد رمَّ ففتته بيده وقال: يا محمد أتُرَى يحييني بعد أن أصير كهذا العظم؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «نعم ويبعثك ويدخلك النار».
وفيه نزل قوله تعالى: {وضرب لنا مثلًا ونسي خلقه قال من يُحْيي العظام وهي رميم} [يس: 78].
وعُبر بـ {تنقص الأرض} دون التعبير بالإعدام لأن للأجساد درجات من الاضمحلال تَدخل تحت حقيقة النقص فقد يفنى بعض أجزاء الجسد ويبقى بعضه، وقد يأتي الفناء على جميع أجزائه، على أنه إذا صح أن عَجْب الذنب لا يفني كان فناء الأجساد نقصًا لا انعدامًا.
وعطف على قوله: {قد علمنا ما تنقص الأرض منهم} قوله: {وعندنا كتاب حفيظ} عطف الأعم على الأخص، وهو بمعنى تذييل لجملة {قد علمنا ما تنقص الأرض منهم} أي وعندنا علمٌ بكل شيء علمًا ثابتًا فتنكير {كتاب} للتعظيم، وهو تعظيم التعميم، أي عندنا كتاب كل شيء.
و{حفيظ} فعيل: إما بمعنى فاعل، أي حافظ لما جعل لإحصائه من أسماء الذوات ومصائرها.
وتعيين جميع الأرواح لذواتها التي كانت مودعَة فيها بحيث لا يفوت واحد منها عن الملائكة الموكلين بالبعث وإعادة الأجساد وبث الأرواح فيها.
وإمّا بمعنى مفعول، أي محفوظ ما فيه مما قد يعتري الكتب المألوفة من المحو والتغيير والزيادة والتشطيب ونحو ذلك.
والكتاب: المكتوب، ويطلق على مجموع الصحائف.
ثم يجوز أن يكون الكتاب حقيقة بأن جعل الله كتبًا وأودعها إلى ملائكة يسجّلون فيها الناس حين وفياتهم ومواضع أجسادهم ومقارّ أرواحهم وانتساب كل روح إلى جسدها المعيّن الذي كانت حالّة فيه حال الحياة الدنيا صادقًا بكتب عديدة لكل إنسان كتابُه، وتكون مثل صحائف الأعمال الذي جاء فيه قوله تعالى: {إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: 17، 18]، وقوله: {ونخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا اقرأ كتابك كفَى بنفسك اليوم عليك حسيبا} [الإسراء: 13، 14].
ويجوز أن يكون مجموع قوله: {وعندنا كتاب} تمثيلًا لعلم الله تعالى بحال علم من عنده كتاب حفيظ يعلم به جميع أعمال الناس.
والعندية في قوله: {وعندنا كتاب} مستعارة للحياطة والحفظ من أن يتطرق إليه ما يغيّر ما فيه أو من يبطل ما عيّن له.
{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)}.
إضراب ثان تابع للإضراب الذي في قوله: {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم} [ق: 2] على طريقة تكرير الجملة في مقام التنديد والإبطال، أو بدل من جملة {بل عجبوا أن جاءهم منذر} لأن ذلك العجب مشتمل على التكذيب، وكلا الاعتبارين يقتضيان فصل هذه الجملة بدون عاطف.
والمقصد من هذه الجملة: أنهم أتوا بأفظع من إحالتهم البعث وذلك هو التكذيب بالحق.
والمراد بالحق هنا القرآن لأن فعل التكذيب إذا عدي بالباء عدي إلى الخبر وإذا عدي بنفسه كان لتكذيب المخبر.
و{لمّا} حرف توقيت فهي دالة على ربط حصول جوابها بوقت حصول شرطها فهي مؤذنة بمبادرة حصول الجواب عند حصول الشرط كقوله تعالى: {فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم} [البقرة: 17]، وقوله: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} [البقرة: 89] وقد مضيا في سورة البقرة.
ومعنى {جاءهم} بلغهم وأعلموا به.
والمعنى: أنهم بادروا بالتكذيب دون تأمل ولا نظر فيما حواه من الحق بل كذبوا به من أول وهلة فكذبوا بتوحيد الله، وهو أول حق جاء به القرآن، ولذلك عقب بقوله: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها} إلى قوله: {وأحيينا به بلدة ميتا} [ق: 6 11].
فالتكذيب بما جاء به القرآن يعمّ التكذيب بالبعث وغيره.
وفرع على الخبر المنتقل إليه بالإضراب وصفُ حالهم الناشئة عن المبادرة بالتكذيب قبل التأمل بأنها أمر مريج أحاط بهم وتجلجلوا فيه كما دل عليه حرف الظرفية.
و{أمر} اسم مبهم مثل شيء، ولما وقع هنا بعد حرف {في} المستعمل في الظرفية المجازية تعين أن يكون المراد بالأمر الحالُ المتلبسون هم به تلبُّس المظروف بظرفه وهو تلبس المحوط بما أحاط به فاستعمال {في} استعارة تبعية.
والمريج: المضطرب المختلط، أي لا قرار في أنفسهم في هذا التكذيب، اضطربت فيه أحوالهم كلها من أقوالهم في وصف القرآن فإنهم ابتدروا فنفوا عنه الصدق فلم يتبينوا بأي أنواع الكلام الباطل يلحقونه فقالوا: {سحر مبين} [المائدة: 110]، وقالوا {أساطير الأولين} [الأنعام: 25] وقالوا {قول شاعر} [الحاقة: 41]، وقالوا: {قول كاهن} [الحاقة: 42] وقالوا: (هذيان مجنون).
وفي سلوكهم في طرق مقاومة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وما يصفونه به إذا سألهم الواردون من قبائل العرب.
ومن بهتهم في إعجاز القرآن ودلالة غيره من المعجزات وما دمغهم به من الحجج على إبطال الإشراك وإثبات الوحدانية لله.
وهذا تحميق لهم بأنهم طاشت عقولهم فلم يتقنوا التكذيب ولم يرسوا على وصف الكلام الذي كذبوا به. اهـ.

.تفسير الآيات (6- 11):

قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أخبرهم أنهم قالوا عن غير تأمل أنكر عليهم ذلك موبخًا لهم دالًا على صحة ما أنكروه وفساد إنكارهم بقوله، مسببًا عن عجلتهم إلى الباطل، {أفلم ينظروا} أي بعين البصر والبصيرة {إلى السماء} أي المحيط بهم وبالأرض التي هم عليها.
ولما كان هذا اللفظ يطلق على كل ما علا من سقف وسحاب وغيره وإن كان ظاهرًا في السقف المكوكب حققه بقوله: {فوقهم} فإن غيرهم إنما هو فوق ناس منهم لا فوق الكل.
ولما كان أمرها عجبًا، فهو أهل لأن يسأل عن كيفيته دل عليه بأداة الاستفهام فقال: {كيف بنيناها} أي أوجدناها على ما لنا من المجد والعزة مبنية كالخيمة إلا أنها من غير عمد {وزيناها} أي بما فيها من الكواكب الصغار والكبار السيارة والثابتة {وما} أي والحال أنه ما {لها} وأكد النفي بقوله: {من فروج} أي فتوق وطاقات وشقوق، بل هي ملساء متلاصقة الأجزاء، فإن كانت هذه الزينة من تحتها فالذي أوقع ذلك على هذا الإحكام الذي يشاهدونه بما فيه من المنافع والستر الذي لا يختل على مر الجديدين، فهو من القدرة بحيث لا يعجزه شيء، وإن كانت الزينة من فوقها فكذلك، وإن كان بعضها من فوق وبعضها من تحت فالأمر عظيم، وهذا يدل على أن السماء كرة مجوفة الوسط مقببة كالبيضة، فإن نفي الفروج فيها على هذا الوجه المؤكد يدل على ذلك دلالة ظاهرة، وأفرد السماء ولم يجمع لأن بناءها على ما ذكر وإن كانت واحدة يدل على كمال القدرة، فإن البناء المجوف لا يمكن بانيه إكمال بنائه من غير أن يكون له فروج، وإن اختل ذلك كان موضع الوصل ظاهرًا للرائين ما فيه من فتور وشقوق وقصور وما يشبه ذاك، ولم يمكنه مع ذلك الخروج منه، إن كان داخله فلم يقدر على حفظ خارجه، وإن كان خارجه لم يتمكن من حفظ داخله، وهذا الكون محفوظ من ظاهره وباطنه، فعلم أن صانعه منزه عن الاتصاف بما تحيط به العقول بكونه داخل العلم أو خارجه أو متصلًا به أو منفصلًا عنه، أو محتاجًا في الصنعة إلى إله أو في الحفظ إلى ظهير أو معين، وجمع الفرج للدلالة على إرادة الجنس بالسماء بعد ما أفاده إفراد لفظها، فيدل الجمع مع إرادة الجنس على التوزيع، مع الإفهام إلى أن الباني لو احتاج في هذا الخلق الواسع الأطراف المتباعد الأكناف إلى فرج واحد لاحتاج إلى فروج كثيرة.
فإن هذا الجرم الكبير لا يكفي فيه فرج واحد لمن يحتاج إلى الحركة، فنزل كلام العليم الخبير على مثل هذه المعاني، ولا يظن أنه غيرت فيه صنعة من الصنع لأجل الفاصلة فقط، فإن ذلك لا يكون إلا من محتاج، والله متعال عن ذلك، ويجوز- وهو أحسن- أن يراد بالفروج قابلية الإنبات لتكون- مثل الأرض- يتخللها المياه فيمتد فيها عروق الأشجار والنبات وتظهر منها، وأن يراد بها الخلل كقوله تعالى: {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور} [الملك: 3] أي خلل واختلاف وفساد، وهو لا ينفي الأبواب والمصاعد- والله أعلم.
ولما دل سبحانه على تمام قدرته وكمال علمه وغير ذلك من صفات الكمال بآية السماء، أتبع ذلك الدلالة على أنه لا يقال فيه داخل العالم ولا خارجه لأنه متصل به ولا منفصل عنه، نبه على ذلك بالدلالة على آية الأرض، وأخرها لأن السماء أدل على المجد الذي هذا سياقه، لأنها أعجب صنعة وأعلى علوًّا وأجل مقدارًا وأعظم أثرًا، وأن الأرض لكثرة الملابسة لها والاجتناء من ثمارها يغفل الإنسان عن دلالتها، بما له في ذلك من الصنائع والمنافع، فقال: {والأرض} أي المحيطة بهم {مددناها} أي جعلناها لما لنا من العظمة مبسوطة لا مسنمة.